19‏/09‏/2008

حتى تركيا وصلها الطش!!!الحجب على طريقة هارون يحيى...


السيد عدنان أوكطار "هارون يحيى" ،اللي واحل في قضية ممكن يضرب فيها كمشة سنين حبس، رفع قضية بموقع ريشارد داوكنز قال شنوة سي ريشارد ينتقد في الكتاب متاعو "أطلس الخلق"!!!!
هو إنو السيد هذايا يرفع قضية من النوع هذايا موش مستغرب من هذا النوع من الناس التي تستغل الدين لجني المال وتكون ثروة من غباء المتدينين.
لكن المشكلة إنو المحكمة في تركيا تحكم لصالح هذا المدعي وتطالب مشغل الإتصالات في تركيا بتنفيذ حجب على الموقع!!!
هذا الخبر كما أوردته الجاردين البريطانية
وكيما هو مكتوب في الخبر السيد هذا ما كانتش هذي تجربتوا الأولى مع حجب المواقع (السيد متمرس في هالميدان)

It is the third time Oktar and his associates have succeeded in blocking sites in Turkey.

In August 2007 Oktar persuaded a court to block access to WordPress.com. His lawyers argued that blogs on WordPress.com contained libelous material that the company was unwilling to remove.

Last April, he made a libel complaint about Google Groups, which was subsequently blocked.

He failed to ban Dawkins' book the God Delusion in Turkey after a court rejected his claims that it insulted religion.


السيد هذا السيد سبق إنوا أقنع المحكمة إنها تأمر بحجب موقع المدونات Wordpress.com ومواقع Blogger يعني كان تقعدلوا الأنترنت في تركيا توة يقص عليهم المواقع الكل كان اللي ترضا عليها مؤسسة "هارون يحيى".
ظاهرلي حالنا في تونس أهون برشة من هكة عالأقل ما فماش محكمة هي اللي تمنع الموقع وتحجبهم أهوكة تحت حس مس وقيد على 404.
الحاجة اللي تنرفز بالرسمي هي كي تعرفوا إنو السيد هذا دخل لمستشفى للأمراض العقلية عام 1986 وقعد فيه لمدة 19 شهر.
توة اش باش يقول الواحد !!! مهبول يحكم في الأنترنت في تركيا ويفرق في الكتب، الكتاب المزمر يسوى ما يسوى، تصاور بالألوان ونوعية ورق من أجود الأنواع، بلوشي "لله".
شيء يدوخ!!!!

14‏/09‏/2008

الفتاوى الهاذية

الفتاوى الهاذية

مداخل نفسية لفهم التراث الإسلامي

د. إقبال الغربي

أستاذة علم النفس بالمعهد الأعلى لأصول الدين بجامعة الزيتونة تونس.

إن إعادة فتح باب الاجتهاد الموعود لن يتحقق من داخل العلوم الدينية بل من خلال النظر إلى الظاهرة الدينية نضرة انثروبولوجية شاملة و الحفر في التراث الإسلامي بالاعتماد على الأدوات المعرفية العقلانية الحديثة التي حققت تطورا مذهلا لا عهد للإنسانية به .

إذ لا بديل اليوم عن المقاربات التاريخية و السوسيولوجية و النفسانية و الفيلولوجية لرصد أبعاد الدين المركبة و المعقدة و البالغة الحساسية بطريقة علمية .ذلك أن هذه الأبعاد الروحية للدين مرتبطة شديد الارتباط بالعالم الخارجي للإنسان و موصولة أيضا بعالمه الداخلي.

فالديانات تكونت منذ الإحيائية إلى التوحيد مرورا بالطوطمية و بالوثنية من خلال تفاعلها مع محيطها و سياقها التاريخي من جهة و ارضاءا لحاجات عميقة و لتحقيق رغبات دفينة متأصلة في أعماق الإنسان مثل الرغبة في الخلود أو الرغبة في نيل حب أب قوي و ودود من جهة أخرى

فقد يبين لنا فرويد في كتابه"مستقبل وهم" (1927 ) أن شرط الإنسان البالغ الهشاشة الذي يواجه قسوة الطبيعة من جهة و قسوة الإنسان على أخيه الإنسان من جهة أخرى وكذلك قلق الموت يجعله يبحث عن وهم يقدم له العزاء الرمزي و نذكر انه بالنسبة لأب التحليل النفسي ,الوهم ليس شيئا سلبيا بل هو آلية سيكولوجية ضرورية للتوازن النفسي.



الفتاوى الهاذية التي أصبحت غنية عن التعريف مثل فتوى إرضاع الكبير أو التبرك بفضلات الرسول(ص) يصنعها عجزنا عن تحديث الدين عبر تحديث الدراسات الدينية و تخصيبها بعلوم الحداثة بامتياز : أي التاريخ و السوسيولوجيا و علم النفس . تفسير الدين بالدين أي الاعتماد حصرا على التخصصات الدينية يضعنا في حلقة مفرغة لن نخرج منها أبدا. وهو ما يفسر مع عوامل أخرى عقم القراءات المتخلفة و الاجتهادات المضحكة التي شاعت و ذاعت عبر الفضائيات و مواقع الانترنيت . فهذه الفتاوى لا تعكس جهلا بالإسلام أو قصورا في الإلمام بتراثه , فهي غالبا ما تصدر عن خبراء و أساتذة أجلاء , بل تمثل على العكس الالتزام بمنهجيات بحث تقليدية و بأساليب تعلمية تسلطية سائدة في الجامعات الدينية تكرس الطاعة العمياء للأستاذ و للنص ولا لتترك مجالا للسؤال و المساءلة و لا للشك و التشكيك فهي بالتالي لا تكون لدى الباحث مناعة فكرية تخول له التصدي للاعقلاني .

و لهذا السبب كانت الحلول البائسة التي عرضت علينا لتجاوز أزمات الفتاوى الهاذية التي تزاحم فيها المأساة الملهاة غير واقعة و غير وظيفية.بل إن هذه الحلول المقترحة أصبحت جزءا من الأزمة التي أرادت تجاوزها إذ أنها فضحت توتر علاقتنا بالتراث الإسلامي.هذه العلاقة التي لم تنجح إلى اليوم لا في إنتاج تراكم معرفي كافي و لا في أحدات إصلاح ديني حقيقي.

فقرار المجلس الأعلى لمؤسسة الأزهر الشريف بإيقاف زميلهم الأستاذ عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر عن العمل و ايحالته على التحقيق بتهمة إثارة البلبلة و مصادرة كتاب "فتاوى معبرة" , مثلا ,تعتبر أساليب تسلطية و خارجة عن التقاليد الجامعية و الأعراف الاكادمية المعهودة بين أعضاء الأسرة العلمية .فهي معالجة أمنية لقضية فكرية و إشكالية علمية بالأساس وهي كيفية التعامل مع التراث الإسلامي.



أما البعض الآخر من علماء الأمة فقد تهتهوا و تلعثموا في الجهر بالحقائق . كما اعتمدوا "حرب الأحاديث" و "حرب الروايات" و التحايل على التراث أي انتقاء حديت ضد آخر و ومواجهة تفسير بتفسير و تعتيم رواية مع تسليط الأضواء على رواية أخرى لتطويع النصوص حسب الحاجة والمقتضيات . فقد تطاولوا على الأئمة الأعلام الذين كانوا يستعملون أقوالهم كحجة قاطعة لإقناعنا بما يكتبون, فهم من أهل الجماعة و السنة ! و ردوا على الأحاديث الثابتة بتهور و بسهولة قصوى . رغم أن حديت رضاع الكبير مثلا لم يكتبه كاتب أو اثنان و لم ينقله صحابي أو اثنان . انه كما قال الإمام ابن حزم منقول نقل الكافة عن الكافة بل انه حديت شغل الصحابة و أمهات المؤمنين منذ العصور الأولى و شغل التابعين و أتباع التابعين و أئمة الفقهاء من بعدهم و قسمهم شطرين شطر يؤيده و يأخذ بضا هره و شطر يتخذ منه موقفا آخر يتمثل في القول بالخصوصية لسالم ,أو القول بأنه منسوخ ,أو القول بأنه رخصة للحاجة . فهذا الانتقاء و هذه الغربلة حسب الأهواء يناقضان مبادئ النزاهة العلمية المعهودة إذ أننا نعتقد انه لا توجد أية جهة مخولة و مالكة للحقيقة لها الحق في إخفاء جزء من تراثنا اعتمادا على المثل التونسي الشائع "استر ما ستر الله" و تغليب جانب على آخر. و في هذا الإطار نذكر بغياب الإجماع في هذا المجال فكمية كتب الأحاديث خير دليل على عدم اتفاق المسلمين حول الأحاديث . فلنذكر جزءاً منها على سبيل المثال: صحيح البخاري، صحيح مسلم، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حيان، سنن الترمذي، سنن أبي داود، سنن أبن ماجة، سنن النسائي، زوائد ابن ماجة، مسند الأمام أحمد، مسند الإمام الشافعي، موطأ مالك، المعجم الكبير للطبراني، مجمع الزوائد للهيثمي، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني، كنز العمال للمتقي الهندي، رياض الصالحين للإمام النووي، تحفة الأحوذي للمبارك فوري، الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي. كل هذه الكتب فيها بعض الأحاديث التي لا يقبل بها الآخرون. وللشيعة كتبهم الخاصة التي تجمع أحاديث أهل البيت، وهي كثيرة و كلها تعارض بل تناقض بعضها في اغلب الأحيان .

ا

كما أن الدعوة إلى " تطهير التراث و السيرة و التفسير" و تنقيتهم من الشوائب وبتر هذا الإرث الثقافي من الأحاديث التي يتخذها المتطرفون تعلة لضرب الإسلام و تجريحه هو نسف لواجب الذاكرة . فليس لأي كان الحق في إجراء تعديل أو تحريف للتراث و التلاعب بذاكرتنا الجماعية التي تعتبر جزء من التراث البشري من اجل إعادة صياغة الوعي الإسلامي و ترصيعه برؤيا مثالية تبسيطية تزيف تاريخنا الثري و المعقد . فالبخاري مثلا مرجع محترم وموثوق به من قبل جمهرة واسعة من المسلمين وقد انتقى الأحاديث الشريفة من بين مئات الألوف من الأحاديث المشكوك بصحتها واختار منها حوالي سبعة آلاف حديث، وسمي كتابه بصحيح البخاري، وهو أحد الصحاح الستة المعتمدة عند معظم المسلمين ومن جميع المذاهب، السنية والشيعية. وكذلك صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل . فهل يصح لجهة ما أن تسطوا على جهود أئمة فجر الإسلام وتتلاعبوا بكتبهم وصحاحهم و تحرفها لأن هناك من يستغل هذه الأحاديث لأغراض لا تلاؤم اليوم مزاجنا !



أن المطلوب اليوم هو ليس التعتيم و إخفاء المعطيات التاريخية التي لا تتناسب مضامينها مع روح العصر و أذواق أبنائه أو إلغاءها جملة و تفصيلا بل إبداع علاقات تأويلية جديدة . و هذا لن يتحقق الا بوضع النصوص في سياقها التاريخي و السوسيولوجي و النفسي مع تغليب الرؤى النقدية العلمية على الرؤى الأسطورية التبجيلية أي إعمال العقل دون فرض أية رقابة على العقل و توظيف الأدوات التحليلية الحديثة لتجاوز البداهة الخادعة و المعارف السطحية و اليقين المباشر و الفوري .


و قد اهتم علم النفس الاجتماعي مثلا بتأثير العوامل النفسية و الاجتماعية في عمليات الإدراك و الذاكرة. إذ بينت تجارب لفين (1948) أن اللاوعي يتدخل في الإدراك العالم الحسي و في تمرير التجارب المعاشة و أن ما نتذكره هو, في الحقيقة , إعادة بناء جديدة حسب ما ترسخ من تمثلات و تصورات مسبقة قابعة في داخلنا ,كما أن انتسابنا لمجموعة ثقافية ما يحدد إدراكنا و تصورنا للآخرين.

و قد وقع, في هذا السياق, تصنيف مجموعات من الطلبة حسب ميولا تهم و اتجاهاتهم الفكرية و الدينية و الجمالية.و عرضوا عليهم على شاشة مجموعة من الكلمات بإيقاع سريع بحيث تبدو بعض الكلمات غامضة و صعبة الإدراك في غلب الأحيان.

و بينت التجربة أن الكلمات التي تتضح أكثر من غيرها و يسهل إدراكها هي التي تقابل و تتناغم مع ما يعتقده الفرد و ما يميل إليه .كما بينت تجربة لفين و مورفي حول التعلم و التذكر أن الذاكرة انتقائية تصطفي ما يلاءم أهواء الفرد و ميولا ته العميقة.

فقد وقع تقديم نصوص متعارضة التوجه لمجموعة من الأشخاص بعضها مناصر للشيوعية و البعض الآخر مناصر و مدافع عنها. و قد تبين بعد أربعة أسابيع أن المجموعة التي كانت تميل إلى النظرية الشيوعية تعلمت و تذكرت محتويات و براهين النصوص المدافعة عن المنظومة الشيوعية و نسيت النصوص الأخرى. بينما تذكر الأفراد المناوئين لهذا الفكر محتويات النصوص التي تفند هذه المنظومة و تدعم قناعاتهم الأصلية.

و في وضعيات مشابهة ,بينت تجارب أخرى أن مجموعة النساء تتذكر الأحكام و الأقوال المناصرة لهن بينما تذكرت مجموعة الرجال ,بكل عفوية , أقوال شوبنهاور و اسكار ويلد المعادية للمرأة. و توجد العديد من الادبيات في هذا السياق .

وقد دعمت هذه التجارب مقولات "مدرسة باولو ارتو" التي تؤكد أننا نبني العالم في حين نضن أننا ندركه بكل حياد و موضوعية .فالرغبات و الاحباطات و كل محتويات اللاوعي تتدخل في تكوين أشكال الإدراك و التعابير البشرية و إعادة بناء الماضي . و يقول هول قي هذا الصدد في كتابه "ما بعد الثقافة " (1979) "أن ما يختاره الإنسان لإدراكه عن وعي أو عن لاوعي هو ما يعطي دلالة و بنية لعالمه"

و كما نعلم فان النبي(ص) قد منع الصحابة من كتابة أي شيء عنه إلا القرآن الكريم ، و لهذا السبب ظلت الأحاديث تتناقل شفهياً لما يزيد عن المائة وخمسين عاماً مما سهّل الابتعاد عن الصورة التي كونتها المجموعة عن النموذج الأصلي الذي أخذ بالانحدار المستمر فمرور الوقت هو تراجع وابتعاد عن الصيغة لأصلية الذي تصبح أكثر فأكثر محاطة بالمبالغة و الأسطورة و مغلفة بالإسقاطات الشخصية.

و قد تفطن القاضي أبو الحسن عبد الجبار(المغني في أبواب التوحيد و العدل ,فصل في بيان حقيقة الخبر و حده) إلى تأثير هذه العوامل النفسية فأكد أن الخبر يتواتر و يتغير في مضمونه و صيغته استجابة لما تستروحه الأنفس " قد ثبت و صح أن ترك إظهار الخبر و الكف عنه اشق على النفس من إظهاره . و كان النفس تستروح إلى إظهار ذلك .فلذلك تقوى الدواعي في إظهاره كما تقوى في سائر ما يستروح الناس إليه و تجد عنده راحة و تخلصا من ضيق صدر و غم و الم . فهذا هو الأصل في الأخبار"

فلا شك إذن أن ما يعتمل به من روايات متعددة يكمن و راءها العديد من الاستيهامات الجماعية و التعويضات الرمزية ضمن مجتمع بدائي مهووس بالجنس ولا شك أن مجال الجنسانية الذي يعتبره علم النفس التحليلي مفتاح الدينامكية النفسية قد ألقى بضلاله على هذا التراث .

إن رفض المرأة و سيادة الخطاب التحريم القائم على التأثيم و التذنيب يقوم على هوس لا حدود له.فهو يسقط عل المرأة نوازع و مخاطر جمة فيخشى على فقدان توازنه و عدم التحكم في غرائزه . وهو ما يقود في بعض الأحيان إلى تطهر هوسي قائم على التوسع و التمادي و الانتشار. في بعض الأحيان ينقلب هذا الهوس المرضي إلى الضد وهو ما يفسر فتوى إرضاع الكبير التي تبيح ما تريد تحريمه !

فهذه الفتاوى تشكل هذيانات منظمة و منسجمة داخليا بيد أنها تنتج تأويلات خاطئة فهي تعكس عالما بسيطا و بدائيا خاليا من الرغبة التي تؤدي وجوبا إلى الفاحشة.

بينما يبين لنا علم النفس أن المسالة أكثر تعقيدا و تشابكا. إذ يميز علم النفس بين الحاجة, والطلب ,و الرغبة. فالحاجة هي غالبا فيزيولوجية تستهدف شيئا معينا و تريد أن تشفي غليلها منه .أما الطلب هو طلب حضور أو غياب و هو في آخر المطاف نداء مستتر للحب .أما الرغبة فهي تتأصل في مخيال الفرد . كما أنها طموح إلى حمل الآخر على التعرف على رغبته الخاصة و الاعتراف بها كما أنها و سعي في أن يكون موضوع رغبة هذا الآخر فهي إذن المحرك المركزي في كل علاقة بشرية . و يؤكد لنا عبد الوهاب بوحديبة في كتابه "الجنسانية في الإسلام"(1976) "أن الإسلام القائم على معنى الحوار مع الله عرف كيف يصهر الجنس داخل تخطي الذات . كانت ممارسة الجنسانية صلاة عطاء مع الذات إحسانا غير أن المسلمين الذين شغلهم أمر الدفاع عن عقيدة محاطة بالشكوك من كل جانب و مرتبكة أكثر فأكثر مع الحياة راحوا يتعلقون بالأشكال الخارجية من النشاط الجنسي أكثر بكثير من تعلقهم بالروح التي تنعشه و تحييه . و من هنا هذا العداء الشاذ للجنس."

و من وجهة نظر الصحة النفسية , تؤدي مطاردة الرغبة و إلغاءها بصورة قسرية إلى نتائج وخيمة. فانتشار آلية الإنكار و تعميمها يتطلب من جهة بذل طاقة مستمرة و جهد دائم من زاوية الاقتصاد النفسي ترهق الفرد الذي يخوض حربا أهلية ضد نفسه وهو ما يحرمه من توظيف هذه الطاقة في مجالات إبداعية . كما يمكن, من جهة أخرى ,أن يؤدي انتشار الإنكار إلى جمود الشعور أو ما نسميه "الشلل الانفعالي المعمم "الذي يعيق مهام التعلم و التكيف و التواصل لأنه يصادر طاقات الشوق و ألتوق إلى معرفة المجهول.

فالمهم من ناحية علم النفس ,ليس التخلص من الرغبة بل استبطان المانع و تشربه مع فرض الحدود و منح المكافئات البديلة.ذلك أن الرغبات هي أساسا "فانتازم " لا يمكن إرضاءها أبدا فهي محكومة دائما بالخيبة .

بيد أن الإحباطات الملازمة لها ضرورية و مهيكلة لشخصية الفرد . فهي التي تمكن الفرد من الوعي بأن الموضوع الملبي للحاجات منفصل عن الذات و ينتمي إلى العالم الخارجي .وهو ما يسهل على الطفل الصغير مثلا التخلص من جبروت الأم و يساهم بالتالي في نسق التفردن أي ذلك المسار الذي يقود تدريجيا إلى الاستقلالية والنضج المتزايد.

فكل تحقيق مباشر للرغبة , إرضاع الكبير مثلا ,يمثل شكل من أشكال انتهاك المحارم و يؤدي إلى حدوث نكوص بسبب تشابه الوضعية المعيشة مع استيهام تحقيق الرغبة الاودبية مما يجعل عملية التفوق على الذات و الوصول إلى نظام رمزي غير مؤكد ة. و نذكر في هذا السياق أن النظام الرمزي, أي تشرب الموانع و النواهي ,هو الذي يرتقي بالضوابط من مشهد الاستعراضات الخارجية و الشكلية , التي تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر, إلى مستوى الضمير الإنساني أي ذلك الاستبطان الداخلي و الانضباط الشخصي اللذان يكونان هيئة قيم أخلاقية عالية تتجسد في السلوك العملي للفرد. و هذه القيم الراقية هي وليدة الإحساس بالمسؤولية و أيضا صنيعة الفردية و الاستقلالية الذاتية و ليست ناتجة عن خوف من العقاب أو عن خجل نشعر به تجاه الآخرين . و من الواضح أن هذا هو هدف الديانات التي تسعى إلى تهذيب الغرائز و الارتقاء بالإنسان من الهمجية إلى الحضارة و من الطبيعة إلى الثقافة.

10‏/09‏/2008

وهم الإعجاز العلمي!!

مقال ممتاز يهتم بظاهرة الإعجاز العلمي في الإسلام وهو ويمثل وجهة نظر" إسلامية" للموضوع.

القرآن كتاب دين وهداية وليس كتاب فيزياء أو كيمياء

القرآن كتاب دين وهداية وليس كتاب كيمياء أو فيزياء ،وإنكار الإعجاز العلمى فى القرآن ليس كفراً ولاهو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة ،فالقرآن ليس مطلوباً منه ولاينبغى له أن يكون مرجعاً فى الطب أو رسالة دكتوراه فى الجيولوجيا ،والآن نستطيع أن نقول وبكل راحة ضمير وإنطلاقاً من خوفنا سواء على الدين أوعلى العلم أن الإعجاز العلمى فى القرآن أو الأحاديث النبوية وهم وأكذوبة كبرى يسترزق منها البعض ويجعلون منها "بيزنس"،وأن عدم وجود إعجاز علمى لاينتقص من قدر القرآن ككتاب مقدس وعظيم ومعجز أيضاً ولكنه إعجاز الأفكار العظيمة التى تحدث عنها، والقيم الجليلة التى بشر بها ،والثورة التى صنعها والتى كانت شرارتها الأولى العقل وإحترامه وتبجيله ،ومن يروجون للإعجاز العلمى لايحترمون هذا العقل بل يتعاملون معنا كبلهاء ومتخلفين ماعلينا إلا أن نفتح أفواهنا مندهشين ومسبحين بمعجزاتهم بعد كلامهم الملفوف الغامض الذى يعجب معظم المسلمين بسبب الدونية التى يحسون بها وعقدة النقص التى تتملكهم والفجوة التى مازالت تتسع بيننا وبين الغرب فلم نعد نملك من متاع الحياة إلا أن نغيظهم بأننا الأجدع والأفضل وأن كل ماينعمون به ومايعيشون فيه من علوم وتكنولوجيا تحدث عنها قرآننا قبلهم بألف وأربعمائة سنة ،كل هذا الكلام يرددونه وبجرأة وثبات وثقة يحسدون عليها ذلك كله يتم بالرغم من أن الرد بسيط والمنطق مفحم ولايحتاج إلى جدل فبرغم وجود القرآن بين أيدينا كل هذه السنين فمازلنا أكثر الشعوب فقراً وجهلاً وتخلفاً ومرضاً ،ومازلنا نستورد العلم والتكنولوجيا من هؤلاء الكفرة ونستخدم الدش والتليفزيون والفيديو والإنترنت وهى بعض من منجزاتهم نستغلها ونسخرها للهجوم عليهم وعلى ماديتهم ومعايرتهم بجهلهم بالإعجاز العلمى ،والمشكلة أننا الأفقر والأجهل والأمرض وكل أفاعل التفضيل المهينة تلك لأننا لم نتبع الخطوط العريضة التى وضعها لنا القرآن والقيم الرفيعة التى دعا إليها من عدل وحرية وتفكر وتدبر فى الكون وسعى وعمل وجد وإجتهاد ،وليس السبب فى تأخرنا كما يقول حزب زغلول النجار وشركاه أننا لم نقرأ جيداً الإعجاز العلمى، فالقرآن شرح لنا طريق الهداية والخلاص ووضع لنا العلامات الإرشادية ولكنه لم يسع أبداً إلى شرح التكوين الإمبريولوجى للجنين ولاإلى تفسير التركيب الفسيولوجى للإنسان ولاإلى وضع نظريات الفلك والهندسة وعلم الحشرات ،والرد المنطقى الثانى على جمعية المنتفعين بالإعجاز العلمى هو أن منهج تناولهم للكشوف والتنبؤات العلمية للقرآن منهج مقلوب ومغلوط فنحن ننتظر الغرب الكافر الزنديق حتى يكتشف الإكتشاف أو يخرج النظرية من معمله ثم نخرج لساننا له ونقول كنت حأقولها ماهى موجودة عندنا بين دفتى القرآن ونتهمهم بالغباء والمعاندة والتكبر ولانسأل أنفسنا إذا كانت تخريخاتهم ودعبساتهم فى القرآن الكريم التى يقولون عنها إعجاز علمى بهذا الوضوح فلماذا لم يحدث العكس فتخرج النظريات بعد دراسة القرآن ونسبق بها الغرب ونغيظهم ونقهرهم بعلمنا الفياض بدلاً من الإنتظار على محطة الكسل المشمسة المخدرة كل منا يعبث فى لحيته ويلعب فى أصايع قدميه وبفلى فى رأس جاره متربصين بالكشوف والقوانين والإنجازات الغربية التى ماأن تمر علينا حتى نصرخ دى بتاعتنا ياحرامية مع أن الحقيقة أننا نحن اللصوص المتطفلين على موائدهم العلمية العامرة ؟!!،وللأسف نظل نحن المسلمين نتحدث عن العلاج بالحجامة وبول الإبل وحبة البركة وهم يعالجون بالهندسة الوراثية ويقرأون الخريطة الجينية ،ونظل حتى هذه اللحظة غير متفقين على تحديد بدايات الشهور الهجرية فلكياً بينما هم يهبطون على سطح القمر ويرتادون المريخ ويراقبون دبة النملة من خلال أقمارهم الصناعية .
[ الإعجاز العلمى خطر على العلم وعلى الدين كما ذكرنا وذلك للأسباب التالية :
• منهج العلم مختلف عن منهج الدين، وهذا لا يعيب كليهما ولا يعنى بالضرورة أن النقص كامن فى أحدهما، فالمقارنة لا محل لها ومحاولة صنع الأرابيسك "العلمدينى" بتعشيق هذا فى ذاك محاولة محكوم عليها بالفشل مقدماً، فالعلم هو تساؤل دائم أما الدين فيقين ثابت، العلم لا يعرف إلا علامات الاستفهام والدين لا يمنح إلا نقاط الاجابة ، كلمة السر فى العلم هى القلق أما فى الدين فهى الاطمئنان ، هذا يشك وذاك يحسم ،وكل القضايا العلمية المعلقة والتى تنظر الاجابات الشرعية لن تجد اجاباتها عند رجال الدين لسبب بسيط هو أن من عرضوها منتظرين الاجابة قد ضلوا الطريق فالاجابة تحت ميكروسكوب العالم وليست تحت عمامة الفقيه،والعلم منهجه متغير وقابل للتصديق والتكذيب ويطور من نفسه بمنطقه الداخلى وربطه بالدين يجعل الدين عرضة للتصديق والتكذيب هو الآخر ،ويهدد العقيدة الدينية بتحويلها إلى مجرد قارب يمتطيه المتاجرون بالدين معرض ببساطة للعواصف والأمواج تأخذه فى كل إتجاه ،ويتحول الدين إلى مجرد موضوع ومعادلة ورموز من السهل أن تتغير وتتغير معه معتقدات المؤمنين ببساطة ويتملكهم وسواس الشك ويأخذ بتلابيبهم ويزعزع إيمانهم ،وكذلك جر العلم من المعمل إلى المسجد يجعل معيار نجاح النظرية العلمية هو مطابقته للنص الدينى سواء كان آية أو حديث نبوى وليس مطابقته للشواهد والتجارب العلمية والمعملية ،فتصبح الحجامة هى الصحيحة علمياً وجناح الذبابة هو الشافى طبياً وبول الإبل هو الناجع صحياً لمجرد أن هذه الوسائل وردت فى أحاديث نبوية ،ويصير العسل دواء لمرض البول السكرى بدون مناقشة لأعراضه الجانبية فى هذه الحالة ذلك لأن المفسرين جعلوا منه شفاء قرآنياً لكل الأمراض ، ويصمت الجميع خوفاً من إتهامات التكفير وإيثاراً للسلامة لأن الطوفان عالى والجميع يريد تصديقه .
• هذا الخلط بين الدين والعلم من خلال تضخيم حدوتة الإعجاز العلمى المخدرة تغرى رجل الدين بالتدخل فى شئون العلم وتعطيل تقدمه وشل إنجازاته،والأمثلة كثيرة على هذا التعطيل فى بلادنا المسلمة فهذه النظرة الكوكتيل التى تنظر من خلال عمامة رجل الدين إلى الأمور العلمية هى التى عطلت قانون زرع الأعضاء حتى هذه اللحظة فى مصر، وهى التى تقنع البعض بأن ختان الإناث فريضة دينية ،وتجعل معظم رجال الدين يتشبثون برؤية الهلال كوسيلة لتحديد بدايات الشهور الهجرية برغم التقدم الهائل فى علوم الفلك ...الخ ،والأخطر أنها تجعل علماء المسلمين دراويش فى مولد أو كودية زار ،فيجهدون أنفسهم فى دراسة فوائد الحجامة أو يؤلفون رسالة دكتوراه فى فوائد بول الإبل ...الخ ،يمارسون كل ذلك وهم يعرفون تمام المعرفة أنهم يكذبون ويدجلون ويمارسون شعوذة لا علماً ويؤلفون نصباً لا إبداعاً ،ويركنون إلى الدعة والتراخى والترهل فيكفيهم أنهم أصحاب العلم اللدنى لدرجة أن البعض فسر تقدم الغرب العلمى بأن الله قد خدمنا وسخرهم لخدمة المسلمين يعنى هم يتعبوا وإحنا ناخد على الجاهز !!.
• القرآن كتاب سماوى محكم وشامل ،أحدث ثورة وتغييراً شاملاً فى مجتمع صحراوى بدوى ضيق ومنه إلى الكون كله ،ولكى تحدث هذه الثورة كان لابد أن يتكلم القرآن مع أصحاب هذا المجتمع البدوى بلغته ومفاهيمه بمافيها المفاهيم العلمية السائدة فى هذا الوقت،ومهما كانت هذه المفاهيم والأفكار العلمية ساذجة أو مغلوطة بمقاييسنا العصرية فإنها كانت ضرورة وقتها وإلا لكنا أمام كتاب ألغاز غامض وليس كتاباً دينياً هادياً ومرشداً ولابد أن يكون واضحاً لكى يقنع ويهدى ويرشد ،ولايعنى وجود هذه الأفكار أن القرآن منقوص ففى إعتقادى أن وجود هذه المفاهيم هى دليل قوة لأنها تحترم مبدأ هاماً وترسخه وهو أن الدين الإسلامى وكتابه الجليل الكريم المقدس يتفاعل مع الواقع بقوة وحميمية وهذه هى معجزته الحقيقية فهو ليس ألواحاً أو أوامر قبلية تهبط فجأة مجتمعة ومتكاملة بدون وضع أدنى إعتبار للبشر الذين سينفذون أو الواقع الحياتى الذى سيحتوى ويتفاعل مع هذه الأوامر والنواهى والأفكار ،ويؤيد كلامى هذا علوم القرآن المختلفة مثل أسباب النزول والناسخ والمنسوخ ....الخ التى تشير كلها إلى الصفة التفاعلية مع الواقع التى يحملها القرآن ،وهو ماينفى عنه أنه كتاب تنجيم علمى وألغاز كونية تستعصى على الفهم ولن تحل إلا بعد ألف سنة ،فالقرآن قد نزل للتفهيم وليس للتعجيز ،ومايفعله بهلوانات الإعجاز العلمى من لوى لعنق الألفاظ وتعسف فى تفسيرها للدلالة على الإعجاز العلمى هو تعارض وتناقض مع جوهر فكرة القرآن الذى يخاطب ويلتحم بالواقع ويتفاعل معه .
[ فكرة أنه لايوجد فى القرآن إعجاز علمى فكرة قديمة ليست وليدة اليوم ولست أنا أول من رددها ولكن رددها من قبل أناس لايمكننا أن نشكك فى إسلامهم وغيرتهم على دينهم،وقد أحس الكثير من المفكرين المسلمين المستنيرين بخطر هذه المحاولة المتعسفة التى تحمل بداخلها ديناميت شديد الإنفجار وأول ماسيفجره هذا الديناميت هو الدين نفسه ،ومنذ أكثر من نصف قرن هاجم الشيخ الراحل الإمام الأكبر محمود شلتوت هذه المحاولات وسخر منها قائلاً لسنا نستبعد إذا راجت عند الناس فى يوم ما -نظرية دارون مثلاً -أن يأتى إلينا مفسر من هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول أن نظرية داروين قد قال بها القرآن الكريم منذ مئات السنين ،ورفض الشيخ شلتوت فى كتابه تفسير القرآن الكريم ص 13 عن التفسير بالإعجاز العلمى قائلاً " إن هذه النظرة لقرآن خاطئة من غير شك ،أولاً :لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف ،ثانياً : لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز ولايستسيغه الذوق السليم ،ثالثاً : لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم فى كل زمان ومكان ،والعلوم لاتعرف الثبات ولاالقرار ولاالرأى الأخير فقد يصح اليوم فى نظر العلم مايصبح غداً من الخرافات " ،إنتهى كلام الشيخ شلتوت فهل يكفره تجار الإعجاز العلمى ودجالوه ؟!،تحدث الشيخ وكأنه يتنبأ بماسيفعله بنا د.زغلول النجار بصفحته المفروشة التى تؤجرها له الأهرام كل يوم إثنين والتى لم تتوفر لعمالقة الفكر المصرى طوال تاريخه ولكنه زمن الدروشة الذى جعل صوت العقل أخرس ويد التنوير مشلولة وتجار الدين مليارديرات ونجوم فضائيات وسماسرة فتاوى ،المهم أن شيخنا الجليل قد تصدى لمحاولات مروجى وهم الإعجاز العلمى ونجح وقتها لأن هذه المحاولات كانت مجرد بذور جنينية ولم تكن قد إنتظمت فى شكل تيار كاسح وحزب شرس كماهو الحال الآن.
المصدر

09‏/09‏/2008

إسماعيل أدهم : لماذا أنا ملحد؟

رسالة ممتازة جدا تستحق إعادة النشر :
لماذا أنا ملحد؟

(كتبت على أثر مطالعة "عقيدة الألوهية" للدكتور أحمد زكي أبو شادي)

لما جهلت من الطبيعة أمرها وجعلت نفسك في مقام معلل

أثبت ربـــا تبتغي حلأ به للمشكلات فكان أكبر مشكل!

توطئة :

الواقع أنني درجت على تربية دينية لم تكن أقوم طريق لغرس العقيدة الدينية في نفسي. فقد كان أبي من المتعصبين للإسلام والمسلمين، وأمي مسيحية بروتستانتية ذات ميل لحرية الفكر والتفكير، ولا عجب في ذلك فقد كانت كريمة البروفيسور وانتهوف الشهير. ولكن سوء حظي جعلها تتوفى وأنا في الثانية من سني حياتي، فعشت أيام طفولتي حتى أواخر الحرب العظمى مع شقيقتي في الأستانة، وكانتا تلقناني في تعاليم المسيحية وتسيران بي كل يوم أحد الى الكنيسة. أما أبي فقد انشغل بالحرب وكان متنقلا بين ميادينها فلم أعرفه أو أتعرف عليه إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ودخل الحلفاء الأستانة. غير أن بعد والدي عني لم يكن ليمنعه عن فرض سيطرته علي من الوجهة الدينية، فقد كلف زوج عمتي وهو أحد الشرفاء العرب أن يقوم بتعليمي من الوجهة الدينية، فكان يأخذني لصلاة الجمعة ويجعلني أصوم رمضان وأقوم بصلاة التراويح، وكان هذا كله يثقل كاهلي كطفل لم يشتد عوده بعد، فضلا عن تحفيظي القرآن. والواقع أني حفظت القرآن وجودته وأنا ابن العاشرة، غير أني خرجت ساخطا على القرآن لأنه كلفني جهدا كبيرا كنت في حاجة إلى صرفه إلى ما هو أحب إلى نفسي، وكان ذلك من أسباب التمهيد لثورة نفسية على الإسلام وتعاليمه. ولكني كنت أجد من المسيحية غير ذلك، فقد كانت شقيقتاي –وقد نالتا قسطا كبيرا من التعليم في كلية الأمريكان بالأستانة لا تثقلان علي بالتعليم الديني المسيحي وكانتا قد درجتا على اعتبار أن كل ما تحتويه التوراة والإنجيل ليس صحيحا. وكانتا تسخران من المعجزات ويوم القيامة والحساب، وكان لهذا كله أثر في نفسيتي.

كانت مكتبة والدي مشحونة بألاف الكتب وكان محرما على الخروج والاختلاط مع الأطفال الذين هم من سني. ولقد عانيت أثر هذا التحريم قي فردية تبعدني عن الجماعة فيما بعد، ولم يكن في مستطاعي الخروج إلا مع شقيقتي وقد ألفت هذه الحياة وكنت أحبهما حبا جما فنقضي وقتنا معا نطالع ونقرأ. فطالعت وأنا ابن الثامنة مؤلفات عبد الحق حامد وحفظت الكثير من شعره، وكنت كلفا بالقصص الأدبية فكنت أتلو لبلزاك وجي دي موباسان وهيغو من الغربيين أثارهم، ولحسين رحمي الروائي التركي المشهور قصصه. وأتى والدي إلى الأستانة وقد وضعت الحرب أوزارها، ودخل الحلفاء الأستانة، ولكن لم يبقَ كثيرا حيث غادرها مع مصطفى كمال إلى الأناضول ليبدأ مع زعماء الحركة الاستقلالية حركتهم. وظللت أربع سنوات من سنة 1919 إلى 1923 في الأستانة قابعا أتعلم الألمانية والتركية على يد شقيقتي والعربية على يد زوج عمتي، وفي هذه الفترة قرأت لداروين أصل الأنواع وأصل الإنسان وخرجت من قرائتهما مؤمنا بالتطور. وقرأت مباحث هكسلي وهيكل والسر ليل وبيجهوت وأنا لم أتجاوز الثالثة عشرة من سنى حياتي. وانكببت أقرأ في هذه الفترة لديكارت وهوبس وهيوم وكانت، ولكني لم أكن أفهم كل ما أقرأه لهم. وخرجت من هذه الفترة نابذا نظرية الإرادة الحرة، وكان لسبينوزا وأرنست هيكل الأثر الأكبر في ذلك، ثم نبذت عقيدة الخلود.

غير أن خط دراستي توقف برجوع والدي إلى الأستانة ونزوحه إلى مصر واصطحابه إياي. وهنالك في الإسكندرية خطوت أيام مراهقتي. ولكن كان أبي لا يعترف لي بحق تفكيري ووضع أساس عقيدتي المستقبلة، فكان يفرض على الإسلام والقيام بشعائره فرضا، وأذكر يوما أني ثرت على هذه الحالة وامتنعت عن الصلاة وقلت له: أني لست بمؤمن، أنا داروني أؤمن بالنشوء والارتقاء. فكان جوابه على ذلك أن أرسلني إلى القاهرة وألحقني بمدرسة داخلية ليقطع على أسباب المطالعة، ولكني تحايلت على ذلك بأن كنت أتردد على دار الكتب المصرية وأطالع ما يقع تحت يدي من المؤلفات التركية والألمانية يومي الخميس والجمعة، وهما من أيام العطلة المدرسية. وكنت أشعر وأنا في المدرسة أني في جو أحط مني بكثير. نعم لم تكن سني تتجاوز الرابعة عشر ولكن كانت معلوماتي في الرياضيات والعلوم والتاريخ تؤهلني لأن أكون في أعلى فصول المدارس الثانوية. ولكن عجزي في العربية والإنجليزية كان يقعد بي عن ذلك.

وفي سنة 1927 غادرت مصر بعد أن تلقيت الجانب الأكبر من التعليم الإعدادي فيها على يد مدرسين خصوصيين ونزلت تركيا والتحقت بعدها بمدة بالجامعة. وهنالك للمرة الأولى وجدت أناسا يمكنني أن أشاركهم تفكيرهم ويشاركونني. في الأستانة درست الرياضيات وبقيت كذلك ثلاث سنوات وفي هذه الفترة أسست (جماعة نشر الإلحاد) بتركيا وكانت لنا مطبوعات صغيرة كل منها في 64 صفحة أذكر منها :

الرسالة السابعة: الفرويديزم،

الرسالة العاشرة: ماهية الدين،

الرسالة الحادية عشر: قصة تطور الدين ونشأته،

الرسالة الثانية عشرة: العقائد،

الرسالة الثالثة عشرة: قصة تطور فكرة الله،

الرسالة الرابعة عشرة: فكرة الخلود.

وكان يحرر هذه الرسائل أعضاء الجماعة وهم طلبة في جامعة الأستانة تحت إرشاد أحمد بك زكريا أستاذ الرياضيات في الجامعة والسيدة زوجته. وقد وصلت الجماعة في ظرف مدة قصيرة للقمة فكان في عضويتها 800 طالب من طلبة المدارس العليا وأكثر من 200 من طلبة المدارس الثانوية –الإعدادية. وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية التي يديرها الأستاذ تشارلز سمث، وكان نتيجة ذلك انضمامنا له وتحويل اسم جماعتنا إلى (المجمع الشرقي لنشر الإلحاد). وكان صديقي البحاثة إسماعيل مظهر في ذلك الوقت يصدر مجلة "العصور" في مصر، وكانت تمثل حركة معتدلة في نشر حرية الفكر والتفكير والدعوة للإلحاد. فحاولنا أن نعمل على تأسيس جماعة تتبع جماعتنا في مصر وأخرى في لبنان واتصلنا بالأستاذ عصام الدين حفني ناصف في الإسكندرية وأحد الأساتذة في جامعة بيروت ولكن فشلت الحركة!

وغادرت تركيا في بعثة لروسيا سنة 1931 وظللت إلى عام 1934 هنالك أدرس الرياضيات وبجانبها الطبيعيات النظرية. وكان سبب انصرافي للرياضيات نتيجة ميل طبيعي لي حتى لقد فرغت من دراسة هندسة أوقليدس وأنا ابن الثانية عشر، وقرأت لبوانكاره وكلاين ولوباجفسكي مؤلفاتهم وأنا ابن الرابعة عشرة. وكنت كثير الشك والتساؤل فلما بدأت بهندسة أوقليدس وجدته يبدا من الأوليات، وصدم اعتقادي في قدسية الرياضيات وقتئذ فشككت في أوليات الرياضيات منكبا على دراسة هوبس ولوك وبركلي وهيوم وكان الأخير أقربهم إلى نفسي. وحاول الكثيرون إقناعي بأن أكمل دراستي للرياضة، ولكن حدث بعد ذلك تحول لا أعرف كنهه لليوم. فالتهمت المعلومات الرياضية كلها فدرست الحساب والجبر والهندسة بضروبها وحساب الدوالي والتربيعات ولكن الشك لم يغادرني، فسلمت جدلا بصحة أوليات الرياضة ودرست، وما انتهيت من دراستي حتى عنيت بأصول الرياضة، وكان هذا الموضوع سبب نوال درجة الدكتوراه في الرياضيات البحته من جامعة موسكو سنة 1933. وفي نفس السنة نجحت في أن أنال العلوم وفلسفتها إجازة الدكتوراه لرسالة جديدة عن "الميكانيكا الجديدة التي وضعتها مستندا على حركة الغازات وحسابات الاحتمال" وكانت رسالة في الطبيعيات النظرية.

وخرجت من كل بحثي بأن الحقيقة إعتبارية محضة وأن مبادئ الرياضيات اعتبارات محضة. وكان لجهدي في هذا الموضوع نهاية إذ ضمنت النتائج التي انتهيت إليها بكتابي "الرياضيات والفيزيقا" الذي وضعته بالروسية في مجلدين مع مقدمة مسهبة في الألمانية. وكانت نتيجة هذه الحياة أني خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات وأمنت بالعلم وحده وبالمنطق العلمي، ولشد ما كنت دهشتي وعجبي أني وجدت نفسي أسعد حالا وأكثر اطمئنانا من حالتي حينما كنت أغالب نفسي للاحتفاظ بمعتقد ديني.

وقد مكن ذلك الاعتقاد في نفسي الأوساط الجامعية التي اتصلت بها إذ درست مؤقتا فكرتي في دروس الرياضيات بجامعة موسكو سنة 1934.

إن الأسباب التي دعتني للتخلي عن الإيمان بالله كثيرة منها ما هو علمي بحت ومنها ما هو فلسفي صرف ومنها ما هو بين بين، ومنها ما يرجع لبيئتي وظروفي، ومنها ما يرجع لأسباب سيكلوجية. وليس من شأني في هذا البحث أن أستفيض في ذكر هذه الأسباب، فقد شرعت منذ وقت أضع كتابا عن عقيدتي الدينية والفلسفية ولكن غايتي هنا أن أكتفي بذكر السبب العلمي الذي دعاني للتخلي عن فكرة "الله" وإن كان هذا لا يمنعني من أعود في فرصة أخرى (إذا سنحت لي) لبقية الأسباب.

وقبل أن أعرض الأسباب لا بد لي من الإستطراد لموضوع إلحادي. فأنا ملحد ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد ومرتاحة إليه، فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه. نعم لقد كان إلحادي بداءة ذي بدء مجرد فكرة تساورني ومع الزمن خضعت لها مشاعري فاستولت عليها وانتهت من كونها فكرة إلى كونها عقيدة. ولي أن أتساءل: ما معنى الإلحاد؟

يجيبك لودفيج بخنر زعيم ملاحدة القرن التاسع عشر :

"الإلحاد هو الجحود بالله، وعدم الإيمان بالخلود والإرادة الحرة" .

والواقع أن هذا التعريف سلبي محض، ومن هنا لا أجد بدا من رفضه. والتعريف الذي أستصوبه وأراه يعبر عن عقيدتي كملحد هو :

" الإلحاد هو الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون في ذاته وأن ثمة لا شيء وراء هذا العالم ".

ومن مزايا هذا التعريف أن شقه الأول إيجابي محض، بينما لو أخذت وجهته السلبية لقام دليلا على عدم وجود الله، وشقه الثاني سلبي يتضمن كل ما في تعريف بخنر من معاني.

يقول عمانوئيل كانط (1724-1804) :

" أنه لا دليل عقلي أو علمي على وجود الله" و "أنه ليس هنالك من دليل عقلي أو علمي على عدم وجود الله ".

وهذا القول صادر من أعظم فلاسفة العصور الحديثة وواضع الفلسفة الانتقادية يتابعه فيه جمهرة الفلاسفة. وقول عمانوئيل كانت لا يخرج عن نفس ما قاله لوقريتوس الشاعر اللاتيني منذ ألفي سنة، ولهذا السبب وحده تقع على كثيرين من صفوف المفكرين والمتنورين بل الفلاسفة من اللاأدريين، وهربرت سبنسر الفيلسوف الإنجليزي الكبير وتوماس هكسلي البيولوجي والمشرح الإنجليزي المعروف قد كانا لا أدريين. ولكن هل عدم قيام الأدلة على عدم وجود الله مما يدفع المرء لللاأدرية؟

الواقع الذي ألمسه أن فكرة الله فكرة أولية، وقد أصبحت من مستلزمات الجماعات منذ ألفي سنة. ومن هنا يمكننا بكل اطمئنان أن نقول أن مقام فكرة الله الفلسفية أو مكانها في عالم الفكر الإنساني لا يرجع لما فيها عناصر القوة الإقناعية الفلسفية وإنما يعود لحالة يسميها علماء النفس التبرير. ومن هنا فإنك لا تجد لكل الأدلة التي تقام لأجل إثبات وجود السبب الأول قيمة علمية أو عقلية.

ونحن نعلم مع رجال الأديان والعقائد أن أصل فكرة الله تطورت عن حالات بدائية، وأنها شقت طريقها لعالم الفكر من حالات وهم وخوف وجهل بأسباب الأشياء الطبيعية. ومعرفتنا بأصل فكرة الله تذهب بالقدسية التي كنا نخلعها عليها.

إن العالم الخارجي (عالم الحادثات) يخضع لقوانين الاحتمال. فالسنة الطبيعية لا تخرج عن كونها أشمال القيمة التقديرية التي يخلص بها الباحث من حادثة على ما يماثلها من حوادث. والسببية العلمية لا تخرج في صميمها عن أنها وصف لسلوك الحوادث وصلاتها بعضها ببعض. وقد نجحنا في ساحة الفيزيقا (الطبيعيات) في أن نثبت أن (أ) إذا كانت نتيجة للسبب. فإن معنى ذلك أن هناك علاقة بين الحادثتين (أ) و(ب). ويحتمل أن تحدث هذه العلاقة بين (أ) و(ج) وبينها وبين (د) و (هـ) فكأنه يحتمل أن تكون نتيجة للحادثة (ب) وقتا وللحادثة (ج) وقتا آخر وللحادثة (د) حينا وللحادثة ( هـ) حينا آخر.

والذي نخرج به من ذلك أن العلاقة بين ما نطلق عليه اصطلاح السبب وبين ما نطلق عليه اصطلاح النتيجة تخضع لسنن الاحتمال المحضة التي هي أساس الفكر العلمي الحديث. ونحن نعلم أن قرارة النظر الفيزيقي الحديث هو الوجهة الاحتمالية المحضة. وليس لي أن أطيل في هذه النقطة وإنما أحيل القارئ إلى مذكرتي العلمية لمعهد الطبيعيات الألماني والمرسلة في 14 سبتمبر سنة 1934 والتي تليت في اجتماع 17 سبتمبر ونشرت في أعمال المعهد لشهر أكتوبر عن "المادة وبنائها الكهربائي". وقد لخصت جانبا من مقدمتها بجريدة "البصير" عدد 12120 "المؤرخ الأربعاء 21 يوليه سنة 1937". وفي هذه المذكرة أثبت أن الاحتمال هو قرارة النظر العلمي للذرة فإذا كان كل ما في العالم يخضع لقانون الاحتمال فإني أمضي بهذا الرأي إلى نهايته وأقرر أن العالم يخضع لقانون الصدفة.

ولكن ما معنى الصدفة والتصادف؟

يقول هنري بوانكاريه في أول الباب الرابع من كتابه :

“Science et Methode”

في صدد كلامه عن الصدفة والتصادف :

" إن الصدفة تخفي جهلنا بالأسباب، والركون للمصادفة اعتراف بالقصور عن تعرف هذه الأسباب ".

والواقع أن كل العلماء يتفقون مع بوانكاريه في اعتقاده -أنظر لصديقنا البحاثة إسماعيل مظهر "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء"، ص 163-167 – منذ تفتح العقل الإنساني. غير أني من وجهة رياضية أجد للصدفة معنى غير هذا، معنى دقيقا بث للمرة الأولى في تاريخ الفكر الإنساني في كتابي :

Mathematik und physic ج2 فصل7

في صدد الكلام عن الصدفة والتصادف. وهذا المعنى لا تؤتيني الألفاظ العادية للتعبير عنه لأن هذه الألفاظ ارتبطت بمفهوم السبب والنتيجة، لهذا سنحاول أن نحدد المعنى عن طريق ضرب الأمثلة.

لنفرض أن أمامنا زهر النرد ونحن جلوس حول مائدة، ومعلوم أن لكل زهر ستة أوجه، فلنرمز لكل زهر بالوجه الأتي في كل من الزهرين :

لنفرض أن أمامنا زهر النرد ونحن جلوس حول مائدة، ومعلوم أن لكل زهر ستة أوجه، فلنرمز لكل زهر بالوجه الأتي في كل من الزهرين :

يك: دو: ثه: جهار: بنج: شيش

ل1:ل2:ل3:ل4: ل5: ل6 في زهر النرد الأول

ك1:ك2:ك3:ك4:ك5: ك6 في زهر النرد الثاني

وبما أن كل واحد من هذه الأوجه محتمل مجيئه إذا رمينا زهر النرد، فإن مبلغ الاحتمال لهذه الأوجه يحدد معنى الصدفة التي نبحثها.

إن نسبة احتمال هذه الأوجه تابعة لحالة اللاعب بزهر النرد، ولكن لنا أن نتساءل :

ما نسبة احتمال هذه الأوجه تحت نفس الشرائط، فمثلا لو فرضنا أنه في المرة "ن" كانت النتيجة هي :

ل6xك6=شيشxشيش=دش

فما أوجه مجيء الدش في المرة (ن+س)؟

إذا فرضنا أن الحالة الاجتماعية هي "ح" كان لنا أن نخلص من ذلك بأن اللاعب إذا رمى زهر النرد (ن=س) من المرات وكان مجموعها مثلا 36 مرة فاحتمال مجيء الدش هنا في الواقع :1\(ن+س)

وبما أن ق+س=36 مرة فكأن النسبة الاحتمالية هي 1\36.

فإذا أتى الدش مرة من 36 مرة لما عد ذلك غريبا لأنه محتمل الوقوع، ولكن ليس معنى ذلك أن الدش لابد من مجيئه لأن هذا يدخل في باب أخر قد يكون باب الرجم. وكلما عظمت مقدار "س" في المعادلة (ن+س) تحدد مقدار "ح" أي النسبة الاحتمالية وذلك خضوعا لقانون الأعداد العظمى في حسابات الاحتمال. ومعنى ذلك أن قانون الصدفة يسري في المقادير الكبيرة.

مثال ذلك أن عملية بتر الزائدة الدودية نسبة نجاحها 95%. أعني أن 95 حالة تنجح من 100 حالة, فلو فرضنا أن مائة مريض دخلوا أحد المستشفيات لإجراء هذه العملية فإن الجراح يكون مطمئنا إلى أنه سيخرج بنحو 95 حالة من هذه العمليات بنجاح، فإذا ما سألته: يا دكتور ما نسبة احتمال النجاح في هذه العملية؟ فإنه يجيبك 95 في المائة، ويكون مطمئنا لجوابه. ولكنك إذا سألته: يا دكتور ما نسبة احتمال النجاح في العملية التي ستجريها لفلان؟ فإنه يصمت ولا يجيبك، لأنه يعجز عن معرفة النسبة الاحتمالية.

هذا المثال يوضح معنى قانون في أنها تتصل بالمقادير الكبيرة والكثرة العديدة. ويكون مفهوم سنة الصدفة وجه الاحتمال في الحدوث، ويكون السبب والنتيجة من حيث هما مظهران للصلة بين حادثتين في النطاق الخاضع لقانون العدد الأعظم الصدفي حالة إمكان محض. ومعنى هذا أن السببية صلة إمكان بين شيئين يخضعان لقانون العدد الأعظم الصدفي. فمثلا لو فرضنا أن الدش أتى مرة واحدة من 36 مرة أعني بنسبة 1:36 مرة ففي الواقع نحن نكون قد كشفنا عن صلة إمكان بين زهر النرد ومجيء الدش، وهذا قانون لا يختلف عن القوانين الطبيعية في شيء.

إذا يمكننا أن نقول أن الصدفة التي تخضع العالم لقانون عددها الأعظم تعطي حالات إمكان. ولما كان العالم لا يخرج عن مجموعة من الحوادث ينتظم بعضها مع بعض في وحدات وتتداخل وتتناسق ثم تنحل وتتباعد لتعود من جديد لتنتظم…. وهكذا خاضعة في حركتها هذه لحالات الإمكان التي يحددها قانون العدد الأعظم الصدفي. ومثل العالم في ذلك مثل مطبعة فيها من كل نوع من حروف الأبجدية مليون حرف وقد أخذت هذه الحركة في الاصطدام * فتجتمع وتنتظم ثم تتباعد وتنحل هكذا في دورة لانهائية، فلا شك أنه في دورة من هذه الدورات اللانهائية لابد أن يخرج هذا المقال الذي تلوته الأن، كما أنه في دورة أخرى من دورات اللانهائية لا بد أن يخرج كتاب "أصل الأنواع" وكذا "القرآن" مجموعا منضدا مصححا من نفسه. ويمكننا إذن أن نتصور أن جميع المؤلفات التي وضعت ستأخذ دورها في الظهور خاضعة لحالات احتمال وإمكان في اللانهائية، فإذا اعتبرنا (ح) رمزا لحالة الاحتمال و(ص) رمزا للنهائية كانت المعادلة الدالة على هذه الحالات:

ح=ص

وعالمنا لا يخرج عن كونه كتابا من هذه الكتب، له وحدته ونظامه وتنضيده إلا أنه تابع لقانون الصدفة الشاملة.

يقول ألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية في بحث قديم له:

" مثلنا إزاء العالم مثل رجل أتى بكتاب قيم لا يعرف عنه شيئا، فلما أخذ في مطالعته وتدرج من ذلك لدرسه وبان له ما فيه من أوجه التناسق الفكري شعر بأن وراء كلمات الكتاب شيئا غامضا لا يصل لكنهه. هذا الشيء الغامض الذي عجز عن الوصول إليه هو عقل مؤلفه. فإذا ما ترقى به التفكير عرف أن هذه الأثار نتيجة لعقل إنسان عبقري أبدعه. كذلك نحن إزاء العالم، فنحن نشعر بأن وراء نظامه شيئا غامضا لا تصل إلى إدراكه عقولنا، هذا الشيء هو الله".

ويقول السير جيمس جينز الفلكي الإنجليزي الشهير :

" إن صيغة المعادلة التي توحد الكون هي الحد الذي تشترك فيه كل الموجودات. ولما كانت الرياضيات منسجمة مع طبيعة الكون كانت لنابه. ولما كانت الرياضيات تفسر تصرفات الحوادث التي تقع في الكون وتربطها في وحدة عقلية فهذا التفسير والربط لا يحمل إلا على طبيعة الأشياء الرياضية، ومن أجل هذا لا مندوحة لنا أن نبحث عن عقل رياضي يتقن لغة الرياضة يرجع له هذا الكون، هذا العقل الرياضي الذي نلمس أثاره في الكون هو الله".

وأنت ترى أن كليهما "والأول من أساطين الرياضيات في العالم والثاني فلكي ورياضي من القدر الأول" عجز عن تصور حالة الاحتمال الخاضعة لقانون الصدفة الشاملة والتي يتبع دستورها العالم، لا لشيء إلا لتغلب فكرة السبب والنتيجة عليهما.

الواقع أن أينشتين في مثاله انتهى إلى وجود شيء غامض وراء نظام الكتاب عبر عنه بعقل صاحبه (مؤلفه). والواقع أن هذا احتمال محض، لأنه يصح أن يكون خاضعا لحالة أخرى ونتيجة لغير العقل. ومثلنا عن المطبعة وحروفها وإمكان خروج الكتب خضوعا لقانون الصدفة الشامل يوضح هذه الحالة. أما ما يقول السير جيمس جينز فرغم انه أخطأ في اعتباره الرياضة طبيعة الأشياء لأن نجاح الوجهة الرياضية في ربط الحوادث وتفسير تصرفاتها لا يحمل على أن طبيعة الأشياء لأن نجاح الوجهة الرياضية في ربط الحوادث وتفسير تصرفاتها لا يحمل على أن طبيعة الأشياء رياضية بل يدل على أن هنالك قاعدة معقولة تصل بينه وبين طبيعة الأشياء.

فالأشياء هي الكائن الواقع، والرياضيات ربط ما هو واقع في نظام ذهني على قاعدة العلاقة والوحدة. وبعبارة أخرى أن الرياضيات نظام ما هو ممكن والكون نظام ما هو واقع، والواقع يتضمنه الممكن. ولذلك فالواقع حالة خصوصية منه. ومن هنا يتضح أنه لا غرابة في انطباق الرياضيات على الكون الذي نألفه، بل كل الغرابة في عدم انطباقها لأن لكل كون رياضياته المخصوصة، فكون من الأكوان مضبوط بالرياضيات شرط ضروري لكونه كونا.

من هنا يتضح أن السير جينز انساق تحت فكرة السبب والنتيجة كما انساق أينشتين إلى التماس الناحية الرياضية في العالم. وهذا جعلهما يبحثان عن عقل رياضي وراء هذا العالم، وهذا خطأ لأن العالم إن كان نظام ما هو واقع خاضعا لنظام ما هو ممكن فهو حالة احتمال من عدة حالات والذي يحدد احتماله قانون الصدفة الشامل لا السبب الأول الشامل.

خاتمة

إن الصعوبة التي أرى الكثيرين يواجهونني بها حينما أدعوهم إلى النظر إلى العالم مستقلا عن صلة السبب والنتيجة، وخاضعا لقانون الصدفة الشامل ترد إلى قسمين :

الأول: لأن مفهوم هذا الكلام رياضي صرف ومن الصعب التعبير في غير أسلوبه الرياضي، وليس كل إنسان رياضياً عنده القدرة على السير في البرهان الرياضي.

الثاني: أنها تعطي العالم مفهوما جديدا وتجعلنا ننظر له نظرة جديدة غير التي ألفناها. ومن هنا جاءت صعوبة تصور مفهوماتها لأن التغير الحادث أساسي يتناول أسس التصور نفسه.

ولهذه الأسباب وحدها كانت الصعوبة قائمة أمام هذه النظرة الجديدة ومانعة الكثيرين الإيمان بها.

أما أنا شخصيا فلا أجد هذه الصعوبة إلا شكلية، والزمن وحده قادر على إزالتها. ومن هنا لا أجد بدا من الثبات على عقيدتي العلمية والدعوة إلى نظريتي القائمة على قانون الصدفة الشامل الذي يعتبر في الوقت نفسه أكبر ضربة للذين يؤمنون بوجود الله.

* نشر إسماعيل أدهم هذه الرسالة في العام 1937 وانتحر في العام 1940، عن 29 عاماً.